فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (28- 31):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
{أَرَءيْتُمْ} أخبروني {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} على برهان {مّن رَّبّى} وشاهد منه يشهد بصحة دعواي {وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ} بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة.
فإن قلت: فقوله: {فَعُمّيَتْ} ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ: {فعميت} بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبي {فعماها عليكم} فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.
فإن قلت: فما معنى قراءة أبي؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها. ونحوه {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله: {لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} راجع إلى قوله لهم: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} [هود: 25]. وقرئ: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} بالتنوين على الأصل.
فإن قلت: ما معنى قوله: {إنهم ملاقو رَّبُّهُمْ}؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم. أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون. ونحوه {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية [الأنعام: 52]، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة {تَجْهَلُونَ} تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل: من قوله:
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا

أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم {مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} من يمنعني من انتقامه {إِن طَرَدتُّهُمْ} وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء {أَعْلَمُ الغيب} معطوف على {عِندِى خَزَائِنُ الله} أي لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب.
ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلي بقولكم {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} [هود: 27] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء: افتعال من زري عليه إذا عابه. وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
{جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك: جاد فلان فأكثر وأطاب {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المعجل.

.تفسير الآيات (33- 35):

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
{إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله} أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه {إِن شَاء} يعني إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنه. {فأكثرت جدلنا} فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ قلت: قوله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} جزاؤه ما دلّ عليه قوله: {لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني.
فإن قلت: فما معنى قوله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالاً، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به: سمي إرشاداً وهداية. وقيل: {أَن يُغْوِيَكُمْ} أن يهلككم من غوى الفصيل غوي، إذا بشم فهلك، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} وإجرامي بلفظ المصدر والجمع. كقوله: والله يعلم إسرارهم وأسرارهم. ونحو: جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامي والمعنى: إن صح وثبت أني افتريته، فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا عليّ {وَأَنَاْ بَرِيء} يعني ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى {مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
{لَن يُؤْمِنَ} إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع {إِلاَّ مَنْ قَدْ ءَامَنَ} إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن حزن بائس مستكين، قال:
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِس ** مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ

والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم {بِأَعْيُنِنَا} في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظاً، وحقيقته: ملتبساً بأعيننا، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا: وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضي الله عنه: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر {وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ} ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضي به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله: {يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].

.تفسير الآيات (38- 39):

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}
{وَيَصْنَعُ الفلك} حكاية حال ماضية {سَخِرُواْ مِنْهُ} ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} يعني في المستقبل {كَمَا تَسْخَرُونَ} منا الساعة، أي: نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق.
وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط: الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: هكذا أهلكت؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير. ثم قال: له عد بإذن الله كما كنت، فعاد تراباً {مَن يَأْتِيهِ} في محل النصب بتعلمون، أي: فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعني به إياهم، ويريد بالعذاب: عذاب الدنيا وهو الغرق {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وهو عذاب الآخرة.

.تفسير الآيات (40- 41):

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
{حتى} هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء.
فإن قلت: وقعت غاية لماذا؟ قلت: لقوله ويصنع الفلك، أي: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد، فإن قلت: فإذا اتصلت (حتى) بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من يصنع، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه.
فإن قلت: فما جواب كلما؟ قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل {سخروا} جواباً و {قال} استئنافاً، على تقدير سؤال سائل، أو تجعل {سخروا} بدلاً من {مرّ} أو صفة {لملأ} و {قال} جواباً. {وَأَهْلَكَ} عطف على اثنين، وكذلك {وَمَنْ ءامَنَ} يعني: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه وإرادته به- تعالى الله عن ذلك- قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته {إِلاَّ قَلِيلٌ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال وخمس نسوة.
وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين؛ فالكلام الواحد: أن يتصل {بِسْمِ اللَّهِ} ب (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج. ويجوز أن يراد مكاناً الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في {بِسْمِ اللَّهِ} من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. والكلامان: أن يكون {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة من مبتدأ وخبر مقتضبه، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله:
ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا

ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. وقرئ: {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين.
وقرأ مجاهد {مجريها ومرسيها} بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.
فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضبة؟ قلت: معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضيه بأن تكون في موضع الحال كقوله:
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيَنا

فلا تكون كلاماً برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير، كقوله تعالى: {فادخلوها خالدين} [الزمر: 73]. {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.